14.12.07

من وحي الأرشيف


من وحي الأرشيف


هذه المداخلة جزء من المحاضرة التي بعثت بها للمشاركة في ملتقى مفدي زكرياء المنعقد يومي 11/12 ديسمبر 2007 بالجزائر العاصمة.
وسننشرها في حلقات ومرحبا بتعقيباتكم.
بالنسبة للإحالات يرجى الرجوع إلى النص الأصلى


أخوكم صالح ابن ادريسو

...
الحلقة الأولى :

الحمد لله الذي هدانا لهذا، والصلاة والسلام على سيدنا محمد المبعوث رحمة للأنام.

أيها الإخوة، أيتها الأخوات السلام عليكم ورحمة الله ؛


سبحان الذي علم بالقلم، وعلم آدم الأسماء كلّها وأخرج من ذريته أمة من النبغاء ؛ حكماء وشعراء، ورفع الذين أوتوا العلم درجات وفضلهم على كثير من عباده. ﴿يوتي الحكمه من يشاء ومن يوت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا﴾، فكلف هؤلاء تأدية رسالتهم العلمية وتبليغها. فأنشد شاعرنا قائلا :
رسالةُ الشعر في الدنيا مقدسة *** لولا النبوءة كان الشعر قرآنا

وفي سبيل تبليغ رسالتهم وصراعم ضد الجهل شقى كل واحد منهم بعلمه وعقله فكان عليهم فتنة وبلاء. وكما أن للعلم درجات فإن للجهل دركات. لكن عندما يتفشى وباء الجهل ويُقنن ويسود أهله ويُلقن الجهل باسم العلم فإن محنة العالم تكون أشد بأسا. فالجاهل حينها يترنم ويتنعم بجهله والعالم يتألم ويتحسر بعلمه.
وما كان هذا ليفلت من لسان مفدي القائل :
من عبث الدهر ومن غيّه *** أن تتعالى الجيف الراكدة

لكن الله تعالى يميز الخبيث من الطيب ويفضل العالم على الجاهل وهو القائل في كتابه الكريم ﴿وما منا إلا له مقام معلوم﴾. وبالعلم ندركه ونعبده ونتقرب إليه ﴿إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ ﴾.





الإخوة الأفاضل، الأخوات الفُضليات، مرة أخرى تحية طيبة؛

تعاملي مع الأرشيف الفرنسي طيلة عقد من الزمن، واكتشاف ما تضمّنته بعض المراكز من وثائق نادرة وباهظة الثمن دفعني أن أهب قسطا من دراساتي في سبيل هدف: هو العمل على إنقاذ جزء من ذاكرة هذا المجتمع، والفضل للبادي...
.
لكن، أليس من مفارقات الزمن أن نبحث عن تاريخنا في أحضان دول أجنبية؟ واليوم نصرف آلاف الأوروات، ونضرب في الأرض أميالا، للحصول على معلومة، أو وثيقة نادرة. لكنّني في نفس الوقت أحمد الله أن وفّق من يحتضن هذه المادّة، بأن وهب لها أياد تدرك قيمتها العلميّة.

احتكاكي بتلك الوثائق، ومعايشة فترات تلك الأحداث علّمني كيف أنّ التاريخ لا يرحم، وكأنّ لسان حاله يقول: ﴿إنّا كنّا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ (الجاثية : 29). واستخلصت أيضا أنّ الأمّة التي لا تستنتج العبر من تاريخها محكوم عليها بمعايشته على علاّته ثانية وثالثة و ... و...
.
ثمّ عندما أتصفّح تلك المادّة، وما تحويه من يوميّات (بالساعات، وأحيانا بالدقائق)، أراني مستفهما ومتعجّبا، ولا أجد أبلغ من الآية الكريمة: ﴿مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها...﴾ (الكهف : 49) -مع فارق النسبة-، وذلك في مسائل قد نعتبرها من أتفه الأمور: شكاوى، وأحوال شخصيّة، ومحاضر شهريّة للعقوبات في مخالفات تتفاوت بين التأديب والتغريم والسجن ... وغيرها.
.
بقدر ما أذهلتني ضخامة تلك المادّة، وما أنفق في أجلها من تقنيات وأموال، يخجلني ما آل إليه ما ورثناه نحن من تراث وخزائن مكدّسة. تلك الخزانة التي أصبحت نسيا في زاوية من زوايا حجرة مقفلة، لا تطؤها قدم إلاّ نادرا، ومخطوطها يتآكل، وزوّارها من جنس آخر، فهي مرتع للفأر والأرضة.
.
لكن بمجرّد السماع عنها، والالتفات إليها من طرف جماعة من الباحثين بغرض تصفيفها، ونفض الغبار عنها، وترميم مخطوطها، واكتشاف ما فيها، فإنّها تزيد في البورصة، فتستردّ رونقها، ويعضّ الوصيّ عليها بالنواجذ، أو يختفي عن الأنظار، ويتخلّف عن الوعود بأعذار واهية، ولن يرضخ لطلبهم إلاّ من قِبل شفيع يطاع.
.
ويجهل هذا أنّه بصنيعه يرتكب جريمة في حقّ مجتمعه، وفي حقّ آبائه الذين تركوه وصيّا على هذا الإرث. وهل سأل يوما نفسه: ماذا لو عرفوا مصير ما آلت إليه جهودهم من ضياع وإهمال؟ ولماذا لم يسلّمها إلى أياد أمينة؟ إذا كان عاجزا عن رعايتها، والتصرف فيها.
.
هؤلاء الصنف من النّاس هم أسلمهم، لأنّ هناك صنف آخر أخطر بكثير؛ أولئك الذين يأتون على إرث آباءهم إتلافا وحرقا، لا لشئ إلاّ لأنّها صناديق تشغل - ربّما- حيّزا من سكناهم.

كنت أخبرت برجل كان يصطحب معه دوما دفترا صغيرا يقيد فيه جميع مذكّراته اليوميّة، فأصبح الدفتر دفاتر، ثمّ كـراريس، فصناديـق، لكن بمجرّد وفاته في أوائل الثمانينات "رُدم" الكلّ في بئر. القصّة من رواية أحد أبطال هذه النكسة، من ورثة المغفور له، روايته لم تكن افتخارا، لكن اعترافات منه أنّها أفعال جاهليّة ... لكن سبق السيف العذل.
.
نحن نعلم أن كلّ من يتعدّى على تركته الماليّة، ولم يحسن التصرّف فيها هو في حكم السفيه، وحكم السفيه شرعا معلوم، هذا في ماله الخاصّ، فما بالك بميراث أمة.
*****
لقد أدركت من خلال تجربتي المتواضعة عند استنطاق الأرشيف أن التاريخ قد كتب على نفسه الإنصاف، وعندما يهمّ بالاقتصاص فلا يرحم، فـبإمكان أيّ إنـسان أن يضلّل أفرادا أو أقـواما أحـقابا، وهم كثير، لكن يستحيل أن يضلّل جميع الناس دائما أبدا، والعكس صحيح؛ فما أكثر هؤلاء الذين فتنوا في أفكارهم، وأجحف في حقّهم إلى حين مماتهم، ثم أقيمت بعدهم ندوات، وانتظمت محافل عرفانا واعترافا لهم.
.
ثمّ لكلّ زمان رجاله وأبطاله، كما له أنذاله وبغاثه، فهؤلاء قوم صناديد، وأولئك قوم رعاع؛ وهؤلاء سيوف وأدرع، وآخرون أبواق وطبول، وبين هؤلاء وأولئك نجد شريحة أخرى من فصيلة الحرباء، يوصفون بالانتهازيين، أو بالمنافقين بلغة الشرع ... والناس معادن.

لولا مواهب في بعض الأنام، لما*** تفاوت النّاس في الأقدار والقيم
(شوقي)
.
ما أقلّ الذين وقفوا وقفة بطل ضد التيار، ليقولوا: (لا)، في سبيل فكرة يستميت من أجلها "أعطي الكأس، وهي منيّة"، ... وما أكثر الذين اندفعوا وراء الرأي العام، دون أدنى قناعة، ولا وعي، أو ما عبّر عنه أحد المؤرخين بـ"الانسياق الجماعيّ".
*****

والحياة مثل الرواية التمثيلية، ليس العبرة منها مدّة العرض وطوله، وإنّما الأهمّ أن تكون أدوارها وفصولها مؤدّاة أحسن أداء؛ والإنسان لا يزال فيها راويا، أوصانعا للأحداث حتّى "يُرى خبرا من الأخبار"، وتلك الأدوار هي التي ستخلّد أعماله، وتجعله في الذّاكرين، "فالذكر للإنسان عمر ثان".

يتبع






Aucun commentaire: