11.1.08

من وحي الأرشيف

الحلقة الثانية
.
دوّنوا المحاسن والمساوئ
.
قد نتّفق جميعا أنّ أمّتنا مرّت بها حقب تاريخيّة ظلاميّة يجب طيّها، لكن قبل طيّها يتحتّم علينا قراءتها. وهو قول لا يتعارض، بل يتطابق تماما مع الآية الكريمة التي يستدلّ بها أحيانا كلّ من يدعو إلى إهمال الماضي ونسيانه، مبرّرا ذلك بقوله تعالى: ﴿تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت﴾ (البقرة: 127، 134)، فلو كان في الأمر تعارض، ما كانت لترد في سياق الحديث عن الأمم الغابرة؛ إنّما هي دعوة -عندما نواجه التاريخ على حقيقته، وعلى علاّته- أن نكون ناقدين لا قضاة، محلّلين لا أوصياء، وليس لنا أن نقيم لهؤلاء الذين قضوا نحبهم محاكم، إنّما مردّهم إلى الله تعالى، ﴿ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾، وهو مبدأ قرآني تقرّه آية أخرى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ (فاطر: 18، سورة الإسراء : 18، سورة الزمر : 7، سورة النجم : 38). والله أعلم وأحكم
.
والقراءة التاريخية لم تكن يوما للتعريض والتشنيع، إنما هي دعوة للتأمّل والعبرة. وعلينا كذلك تقبل النقد الذاتي، باستخلاص الدروس والعظات.
.
وإذا فـاتـك التفات إلى الـمـا*** ضي، فقد غاب عنك وجه التأسّي
(شوقي)
.
ولنا في القرآن الكريم أسوة، فعندما يحدّثنا سبحانه وتعالى عن مناقب الأنبياء، ولقد كان في قصصهم عبرة، لم يكن لينقص شيئا من شأنهم عندما نقرأ:
.
﴿وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظنّ أن لن نقدر عليه...﴾
(الأنبياء: 87-88)، في شأن سيدنا يونس عليه السلام.
﴿أتهلكنا بما فعل السّفهاء منّا إن هي إلا فتنتك تضلّ بها من تشاء﴾
(الأعراف : 155)، في شأن سيدنا موسى عليه السلام، وفيه نلتمس حدة المزاج.
﴿ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه﴾
(يوسف : 24)، في شأن سيدنا يوسف عليه السلام.
﴿عبس وتولّى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعلّه يزكّى﴾
(أول عبس)، آية في العتاب، في شأن الرسول محمد .
.
وكلّه قرآن يتلى، ويُتعبّد بتلاوته
.
علاج بعض الأمراض والظواهر الاجتماعية، قد يكون بالعودة إلى التاريخ والوقوف على بعض محطّاته، فالمجتمع مثله كمثل المريض النفساني الذي قد تجد علاجه بالرجوع إلى ماضيه المركّب الأليم.
.
كلّنا نغترّ بالمدح والثناء، والإنسان من طبعه يحبّ الإطراء، بل ومن فنون إبداء التواضع، القدرة على إظهار محاسننا ومزايانا، لكن على لسان الغير.
.
عندما يتقلّد المرء مناصب ومراتب عليا، فخطواته، وأقواله ولو فلتات لسان تصبح تحت المجهر، فالمكروه لدى العامّة يكون عنده حراما، والمنـدوب واجبا، والابتعاد عن الشبهات ضرورة، ولقد قيل: "حسنات الأبرار سيئات المقرّبين"، فهؤلاء بالضرورة معرّضـون للنقد مهما كانت مرتبتهم، ويجب أن يكون لديهم كذلك استعداد لتقبّل هذا النقد، ولو كان من سوقة الناس، عندما يكون وجيها. وكلّ من أعماله و أقواله مأخوذ ومنبوذ، فلو استطعنا استمالة الرعيّة، وتزوير الحقائق، فلن نفلت أبدا من مصيدة التاريخ، ... قبل يوم النقاش.
.
الكتابة في التاريخ وللتاريخ مسؤوليّة عظمى، لكن لا مفرّ منها، ولا تقلّ عن مسؤولية المرشد الداعية. والانسان حيوان فضّله الله تعالى على بقية الحيوانات بأنّ له ذاكرة، وعلّمه ما لم يعلم، لكي يستذكر تاريخه، ويعيه حتّى لا يقع فى نفس الأخطاء التي وقع فيها السابقون، وحتّى تتطوّر حياته إلى الأحسن بفضل ذلك التراكم المعرفيّ.
.

وهنا أفتح قوسين لأسأل علماء الحديث والشريعة عن المفهوم الصحيح لقوله : "خير القرون قرني، ثم ..."، فظاهره يوحي أنّنا نعيش اليوم أسوأ الفترات، وليس في الإمكان أفضل ممّا كان. طبعا لا أظنّ أنّ المعنى كذلك، وإلاّ لمّا صحّ يوما أن نقول: "عصر النهضة"، أو "الصحوة"، أو "الإصلاح"، وكذا العكس مثل: قولنا "الفتنة الكبرى"، أو "عصر الإنحطاط"، ...
.
والتاريخ لم يكن يوما فنّا يصوغه كلّ امرئ حسب ريشته، ينتقي منه بغيته، أو ما يروقه، ويدغدع شعوره، ليعيش في ظلال المجتمع الملائكيّ والمدن الفاضلة. يقرأ منه بعض الجوانب المضيئة فقط، متعاميا عن أغلبه، فيلبس التاريخ ثوب القداسة، ولهذا لا نتعلّم ولا نتّعظ.
.
مـثل القـوم نـسـوا تـاريخهم***كلقيط يدّعـي فـي الناس انتسابا
أوكـمـغلـوب عـلى ذاكـرة ***يشتكي مـن صلة الماضي انقضابا

(شوقي)
.
فكتمان الداء قد يزيده تعفّنا، وتشخيصه قد يسدّ الثغرة، ويوقف النزيف؛ لكن، وبمجرّد أن يضع الدارس المحلّل يده على الداء، ليلمس وترا حساسا، يصبح ذلك عزفا نشازا، ويجرّد من الألقاب، ويصبح تنقيبه نبشا، وتقصّيه للحقائق حفرا، وتدوينه اشتغالا بالسفاسف، ويرمى بأشنع الصفات، وبكلّ العقد.
.

تقـول هـذا مجاج النحل، تمدحـه*** وإن تشـأ قلت ذا قـيء الـزنابير

(ابن الرومي)

.

وهؤلاء الذين يسعون إلى طمس الحقائق، لا لشيء إلاّ لأنّه عادة ما تكون وراءه دواع شخصيّة تدفعهم إلى مثل هذه المواقف المخزية.

.

الكتابة في التاريخ ليست عشوائيّة، بل تستند إلى ضوابط مقنّنة، على المؤرّخ التعهّد باحترامها، ومن نكث فإنّما ينكث على نفسه، خاصّة عندما تتعلّق القضيّة بتبعات وأشخاص ودماء، ومن أهمّ تلك البنود احترام آجال إخراج هذه الوثيقة أو تلك الحقيقة.

.

والتاريخ رغم أنّه بمثابة علم، فلا يزال يحتاج إلى تنظير ودراسة موضوعية، فهو أبعد ما يكون عن العلوم الدقيقة، مثله مثل جميع العلوم الإنسانية، فالمؤرّخ لن يستطيع أن يتجرّد بالكليّة من عقيدته وعاطفته عند الكتابة.
.

يتبع

أولويّة المؤرّخ على السياسيّ

...

ص ابن ادريسو

Aucun commentaire: