9.2.08

من وحي الأرشيف

الحلقة الثالثة
ص ابن ادريسو
.
أولويّة المؤرّخ على السياسيّ
.
بإمكاننا تصنيف التاريخ إلى رسميّ عامّ، تطعمه السلطة؛ وعلمي موضوعي خاصّ، يتقصّى كلّ الحقائق، وقد يندرج الأول في الثاني بالتقادم، وعندما تخفّ حدّة الخلافات (عادة بذهاب أهلها)، وذلك بالاعترافات، وكتابة المذكّرات، أو بعد الاطّلاع على خبايا الأرشيف؛ وهو ما عبّر عنه المؤرخ أبو القاسم سعد الله بالكتابة الرسميّة، والعلميّة، وأضاف إليهما صنفا آخر، وهي الكتابة الشعبيّة
.
كلّما تعمّقت في تلك الفترات، إلا وأدركت أنّني لا أزال متطفّلا، وأجهل الكثير عن تاريخ الجزائر، بل والأدهى أنّ تلك النسبة التي تعلّمتها تلقينا تحتاج أيضا إلى تمحيص و تصويب، وهو ما يدفعنا أحيانا إلى الوقوف، والشكّ في كثير من القضايا. "شكّ تاريخيّ" إلى حين الثبوت.
ولا يعني من هذا أنّ اعتمادنا على تلك التقارير الفرنسيّة كانت بثقة عمياء، فلا بدّ من تمييز الغثّ من السمين، ومقابلة المعلومات وهذا من أبجديات المنهجية العلمية
.
.
حين أطالع الصحف الوطنيّة، وأقف على عبارات "تاريخ الثورة لم يكتب بعد" ...، وإنّ الذين عاشوا، أو عايشوا الأحداث لمّا كتبوا وتحدّثوا "لم يصرّحوا إلا بالنزر القليل"، فهذا أمر طبيعيّ، فهي مسألة وقت، والزمن جزء من العـلاج، خاصّة إذا كان الحديث عن قضايا حديثة العهد، فالخوض فيها، وإخراجها للعامّة مدعاة للفتنة، ولو أدركوه وعرفوه "عرفوا من البلاء أكثره"، وفيه تصحّ -ربّما- عبارة القائلين: "ليس كلّ ما يعلم يقال".
.
لكنّ الأدهى والمؤسف عندما أقرأ عناوين مثل "الجزائر عاشت على وقع التزوير"، في حوار مع المناضل أحمد مهساس([1])، أو "زوّروا التاريخ، واختلقوا تاريخا وهميّا"، في حوار مع المناضل امحمد يزيد([2]فهذا خطأ جسيم، واغتيال لذاكرة الأمّة.
[1]- الخبر الأسبوعيّ، عدد 297، 30 أكتوبر/ 5 نوفمبر 2004، ص12.
[2]- الخبر الأسبوعي، عدد 297، 6/12 نوفمبر 2004، ص12.
.
عندما صرّح السيّد ع. مهري في إحدى الندوات على وجوب نشر الوثيقة الكاملة لمؤتمر الصومام، فهو يؤكد لنا أنّها وثيقة ناقصة، ونحن نلقّن تلاميذنا تاريخا انتقائيا، نؤمن ببعضه، ونكفر ببعضه الآخر؛ ثمّ تلته نفس التصريحات عن وثائق مؤتمر طرابلس، والملاحق السريّة لاتّفاقية إفيان، ...الخ
وإذا لم نعتبر هذا تزويرا، فهو كذب بالحذف، والاختلاف لفظي. مثل هذه التصرّفات تهتزّ بها ثقة الفرد، وتجرّد تاريخنا من كلّ
مصداقية، ومن يضمن لهذه الأجيال في هذه المرّة أنها حقائق؟ وإلى أيّ مدى تمّ التطاول عليها؟
.
أمّتنا غلب عليها النسيان وفقدان الذاكرة، فبمجرّد محاولة استحضار وقائع حديثة العهد، ولو تعلّق الأمر بمسألة مصيرية، لا يكون ذلك سهلا، حيث تشتبه علينا التواريخ، وتختلط الأسماء والأشخاص؛ في حين لو ضلّ أحد الشهود في أقواله، أو كتاباته، كان بالإمكان أن يذكّره غيره، ويعينه على استرجاع ذاكرته، بما احتفت به من القرائن.
.
لذلك لا مفرّ من الكتابة، كما يجب الحرص على تحرير مذكّراتنا اليوميّة الشخصـيّة، مع الدقّـة في ضبط التواريخ، فالكتابة أبقى وأنقى، ولو غلب عليها طابع الذاتيّة، ولا مناص، فذلك مهمّة الباحث المؤرّخ عند استنطاق تلك الوثائق.
فالكتابات التي صدرت حديثا، والتي تحتوي على اعترافات من زعماء سياسيين، وإن لم تكن لتروق بعض الشرائح، فهي بشـائر خير، لأنّ المؤرّخين لا يزالون تحت مظلّة ورحمة هؤلاء، ولأنّ الشرعيّة الثوريّة ما زالت قائمة، رغم تصريحات رئيس الدولة
([1]).
[1]-"Le Président Abdelaziz Bouteflika au 10e Congrès de l'ONU, La légitimité révolutionnaire, c'est terminé !", El-Watan, 02/11/2004
.
وأظنّه يتعيّن -كخطوة ملموسة وجريئة لوضع حدّ لهذه الشرعيّة- أن نبقي الجبهة، وخاصّة بعد التعدّدية الحزبية، إرثا للجميع، يمنع استغلالها، بدل أن نقلّصها إلى حزب سياسيّ، يستمدّ شرعيّته من ماض مشترك، هو حقّ وملك لكلّ جزائريّ، أو تتنازعه أطراف لأغراض انتخابيّة.

والملاحظ أنّ الخطاب السياسيّ في مثل هذه الطروحات عادة ما يصطدم بواقع ميدانيّ مضادّ. لمّا تمّ رسميّا ردّ الاعتبار للزعيم مصّالي في جويلية 1999، هل كان ذلك ليشفع مثلا للمؤرّخ رابح بلعيد عندما حاول إقامة مؤتمر له، فوجد نفسه بين أروقة العدالة بتهمة القدح والمساس بالرموز الوطنية. وكلّ من كان يهتمّ بالمسألة يعلم تفاصيل القضية، ولقد برأته العدالة وقضت لصالحه يوم 2 أكتوبر 2001
.
يجب سحب تاريخنا من أسوار القداسة، وقراءته بعين البصيرة، والاستفادة منه باستنباط العبر، لنستعيد هذا التاريخ المغتصب بدون عقدة عظمة، أو شعور بالدونيّة. وهذه الخطوة ستزكّي فينا الشـعور بالمسؤولية، فكم من مـرّة، وأنا في مقاعد الدراسة، في مرحلتي المتوسّط والثانويّ، كنّا نردّد عبارة "مخلّفات أو رواسب الاستعمار"، لأنّنا نحسن البكاء على الأطلال، و نأبى الاعتراف بالخطأ، أو الإخفاق الصادر منّا.
.
فبدل النهوض و استنفار الهمم، ألقينا الحبل على الغارب، فإن حدث أن نطق أحد منّا بما لا يطرب الأسماع، رميناه بعدم الوطنيّة والخيانة، أو قلنا إنّه مساس بالثوابت، وإنّها دسائس ومخطّطات صهيونيّة، وهكذا "يحسبون كل صيحة عليهم"، وهذا التعتيم هو في ذاته ممارسة للإرهاب الفكري.
وغدا لنا في عشرية الإرهاب والحرب الأهلية التي عشناها في التسعينات ما نعزف على أوتاره حينا من الدهر للجيل القادم، لنبرّر به تخلّفنا، فلو كان ذلك شأن الجنس الجرمانيّ، مثلا، ما حققّ يوما انتصاراته في معظم المجالات، من يوم أن كسرت شوكته في الحرب الثانية، رغم انطلاقته من الصفر، وذلك لأنّه استفاد من أخطاء مسيرته التاريخية.

.
ما قام به الرئيس الأسبق أحمد بن بلة من "تصريحات" على قناة الجزيرة ضمن برنامج شاهد على العصر، في الثلاثي الأخير من سنة 2002، وما أثاره من ضجّة بغضّ النظر عن نسبة خطئها أو صدقها، لو صدرت من مؤرّخ أو باحث لكان مصيره "الرجم" والمصادرة، إذ يصعب على مؤرّخ في الجزائر أن يفتح ملفّا ساخنا، لم يسبق لسياسيّ التطرّق إليه، وعند كسر "الطابو" يكون له ذلك بمثابة رخصة.
.
ورغم الضجّة التي أقامها كتاب أوساراس، فأكيد أنه سيكون مرجعا هامّا، وأرى شخصيّا أنّه من أهمّ ما يضاف إلى مكتبـاتنا، فلقد وقف كشاهد على جوانب غامضة من تاريخ الثورة، كظروف مقتل ابن مهيدي (1923-1957)، حيث انجرّت كثير من الأقلام، جزائريّة كانت أم فرنسيّة، بل حتّى تقارير المخابرات العامّة آنذاك، وراء إشاعة أنه مات منتحرا، ومثل هذه الكتابات ستجيب على كثير من التساؤلات.
ذلك الكتاب هو نقمة على فرنسا وليس على لجزائر، نعم لا أحد ينكر أنّها حرب قذرة، لكن هل توجد حرب نظيـفة؟ وإنّ اللجـوء إلى تكميم الأفواه هو لجوء إلى وأد الذاكرة، فلتكن اعترافات إرهابيّ، أو سفّاح "بتعبير الصحافة"، أو قل ما شئت من الألقاب ... لكن نحن بحاجة إلى هذه الاعترافات رغم بشاعتها
.
.
أتذكّر حينها أنّني قمت بمراسلة آخر حاكم عسكري لمنطقة ميزاب، شارل كلانكناش، والمقيم في الألزاس، لكن جاءت –وللأسف- ردوده أقصر من أسئلتي، رغم أنّه رحب بالطلب عندما هاتفته في الموضوع. إنّ هذه الموجة الإعلاميّة كانت قد أثّرت بالتأكيد سلبا على كلّ من همّ بالكتابة، وكانت تحذيرا لكلّ من تسوّل له نفسه الكتابة.
.
عندما أقوم بإطلالة على الصحافة الوطنيّة، أحيانا أستبشر خيرا: فهذه محاضرة تتحوّل إلى مناظرة عند إثارة أحد المتدخّلين انحرافات ما بعد الإستقلال([1]وهذه معركة كلاميّة بين الهادي الحسني والطّاهر الزبيري([2]وتلك مذكّرات علي كافي، وما أثارته من زوابع([3])... كلّها خلافات، ظاهرها التضادّ والشحناء، وباطنها السعي إلى إظهار الحقّ والحقيقة، ومنها تتمخض الحقائق الغائبة أوالغامضة، وهو ما نستشفّه كذلك في نفس الصحف عندما نقرأ: "يومان دراسيان حول مستويات الدكتوراه، التركيز على إعادة قراءة التاريخ المعاصر"([4]أو "دعوة النوّاب إلى سنّ قانون لحماية الذاكرة، في ندوة حول الأرشيف بمجلس الأمة"([5]) ...
[1]- الخبر، 8/11/ 2004، ص7.
[2]- الشروق اليومي، 20 ماي 2004، في ذكرى رحيل الإمام الإبراهيميّ، محمد الهادي الحسني؛ 1/7/2004، عدد 1115؛ و8/7/2004، عدد 1121؛ الزبيري يهاجم العلماء ومصّالي والأمير خالد، وعد بكتاب سيصدر قريبا، 4 جويليه 2004، ص15.
[3]- "لما لجأت عائلة عبّان لمقاضاته، قضت المحكمة بحذف الفقرات التي تعرّضت للشهيد، لكنّها أكدّت عدم الاختصاص للفصل تاريخيا في المسألة"، أنظر: جريدة اليوم، غ. ق، 7/11/2002، ص5.
[4]- الخبر، 25 سبتمبر 2003، ص19، ثقافة.
[5]- الشروق اليومي، 21 جوان 2004، بمناسبة شهر التراث، ص15.
.
الذين عايشوا تلك الفترة قد مرّت بهم أزمات نفسيّة، من هول ما شاهدوه، جعلتهم يتعذّبون بتلك المكبوتات، ونادرا ما نجد من هؤلاء من يُسِرّ ولو إلى أقاربه بتلك التجربة المريرة. وبعد طول الزمن إن لم تعاجله المنية، وحاول الكتابة، أو حدث أن نطق بما يغضب الغير، كيلت له التهم، وإن كان من المقرّبين المحترمين رُمي بالشيخوخة وضعف الذاكرة، أوبعبارة المحدّثين: قلنا إنّه "تغير بآخره"([1]).
[1]- ينظر على سبيل المثال: "حوار الرائد س. سعود عن صديقه ج. جعيجع في حادثة بني يلمان"، الخبر الأسبوعي، عدد 293، 9/15 أكتوبر 2004.
.
دعوا الناس يكتبون مذكّراتهم، ويدلون بشهاداتهم آمنين مطمئنين، وقارعوا الحجّة بالحجّة. ما أحوجنا إلى قراءة وتدريس تاريخ سليم من الشوائب، ومن الخطأ أن ننظر إلى التاريخ بآليات عصريّة، بل يجب أن نبقيه في إطاره الزمنيّ نقدا وتحليلا، مثَله أن نعيب على مؤلف من أوائل القرن الماضي منهجيته، بميزان مناهجنا الحديثة، بينما هي منهجية عصره.
.
ومن بين القضايا الشائكة التي لا يزال الغموض يلفّها، نذكر على سبيل المثال جدلية الأرقام، فعندما نتحدّث مثلا عن حصيلة شهداء حرب التحرير، فماذا عن الحرب الجزائريّة – الجزائريّة، أي بين الجبهة والمصاليين وما حصدته من أرواح؟ وكيف يصنّف هذا الفريق الأخير مثلا؟ وهل في وسعنا أن نقف على العدد التفصيلي لشهداء حرب التحرير، بينما نجد صعوبات في ضبط عدد الأحياء منهم؟ وهذه إشارة إلى موضوع المجاهدين المزيّفين الذي أثاره مصطفى بوقبة، وتناولته الجرائد في الفترة الأخيرة([1]ونفس الإشكالية تطرح عند الحديث عن نكسة 8 ماي 1945([2]).
[1]- ينظر مثلا: الشروق اليومي، "قضية المجاهدين المزيفين تعود إلى الواجهة"، 27 جويلية 2004، ص5. وهذه الانتهازية لا زلنا نعيشها عند الحملات الانتخابية بالانتقال من حزب إلى آخر، بمجرّد حصول أحدهم على الأغلبية، مع سهولة هؤلاء للتأقلم من جديد، والانصهار في تلك الأحزاب دون أدنى عقبات، ولا أدنى عواقب.
[2]- أنظر مثلا : بلعيد عبد السلام، "45 ألف ضحية ... رقم استعمل للدعاية ضد فرنسا"، حوار ح. بوزيان - ل. أمين، الخبر الأسبوعي العدد 323، 7-13، 2005، ص9.
.
أرى في العشرية القادمة، وما تحمله من ملّفات حُبالى، أنها ستزيح الكثير من الغمام عن تلك الحقب التاريخيّة، لتصفو الأذهان، ويقطع دابر الخلاف... ولو نسبيا.
....
عن تتمة المحاضرة يرجى الرجوع إلى الأصل
والسلام عليكم
صالح ابن ادريسو

Aucun commentaire: